ثانياً: الإعداد للفتح:
بذل السلطان محمد الثاني جهوده المختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، وبذل في ذلك جهوداً كبيرة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون مجاهد[20] وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عني عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية الجهادية المنتظرة كما أعتنى الفاتح بإعدادهم إعداداً معنوياً قوياً وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود وربطهم بالجهاد الحقيقي وفق أوامر الله.
وقد اعتنى السلطان بإقامة قلعة روملي حصار في الجانب الأوروبي على مضيق البسفور في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي، وقد حاول الإمبراطور البيزنطي ثني السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهد به إلا أن الفاتح أصر على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها إلى 82 متراً وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى 660م تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور إلى غربيه وتستطيع نيران مدافعهما منع أي سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة[21].
أ- اهتمام السلطان بجمع الأسلحة اللازمة:
اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماماً خاصاً منه حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى أوربان كان بارعاً في صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، وقد تمكن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها[22].
ب- الاهتمام بالأسطول:
ويضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة وقد ذكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة[23].
ج- عقد معاهدات:
كما عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة غلطة المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بيهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع المجد والبندقية وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن القسطنطينية[24] مشاركة لبني عقيدتهم من النصارى متناسين عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين.
في هذه الأثناء التي كان السلطان يعد العدة فيها للفتح استمات الإمبراطور البيزنطي في محاولاته لثنيه عن هدفه، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه، وبمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره[25] ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنه هذه الأمور عن هدفه، ولما رأى الإمبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوروبية وعلى رأسها البابا زعيم المذهب الكاثوليكي، في الوقت الذي كانت فيه كنائس الدولة البيزنطية وعلى رأسها القسطنطينية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية وكان بينهما عداء شديد وقد أضطر الإمبراطور لمجاملة البابا بأن يتقرب إليه ويظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية لتصبح خاضعة له، في الوقت الذي لم يكن الأرثوذكس يرغبون في ذلك، وقد قام البابا بناءً على ذلك بإرسال مندوب منه إلى القسطنطينية، خطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين، مما أغضب جمهور الأرثوذكس في المدينة، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الإمبراطوري الكاثوليكي المشترك، حتى قال بعض زعماء الأرثوذكس : إنني أفضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية [26].
ثانياً: الهجوم:
كان القسطنطينية محاطة بالمياة البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البسفور ، وبحر مرمرة ، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافة إلى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة الى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدماً وعليه أبراج يصل ارتفاعها الى 60 قدماً ، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمس وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند[27]، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة إلى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة إسلامية سابقة كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها[28]، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها الى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنة الى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه الى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م ، فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة ، وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، ومافي فتحها من عز للإسلام والمسلمين ، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء[29].